من ملفات الجاسوسية . أحمد ضاهر . . ـ جاسوس الصدمة
سقطت مغشياً عليها. . وسقط الجنين . . وتكر السنون تطرحها تأكل فؤادها. . وعقلها. . وتلتهم جذور صبرها بلا هوادة.
استغل هو معاناتها. . وضغط بقوة على براكين آلامها . . ففجرها. . وأشعل بداخلها ثورة من جنون غاضب .. متمرد، وصرخت: سأحرق قلوبهم وأنسف أفراحهم . . إنني أتشوق للعمل معكم بشرط ألا أتعرى . . أو أضاجع حيواناً منهم مهما كان مركزه.
هكذا بدأت "نورما عساف" في لبنان . .
رحلة الانتقام . . والثأر . . والكراهية .. !!
شبكات التعقب
عندما تتجسس المخابرات الاسرائيلية على الدول العربية، فهي إنما تسعى لمعرفة أدق الأسرار الحربية والسياسية والاقتصادية لتبني استراتيجيتها المختلفة. أما في لبنان، وفي حالة الجنوب اللبناني بالذات، فالوضع يختلف كل الاختلاف، إذ أنها تتعامل مع منظمات ثورية وجماعات فدائية دائمة التنقل والحركة، تخطط لعمليات هجومية وانتحارية فجائية يصعب رصد مقدماتها أو توقيتها، مما يشكل عبئاً ثقيلاً على القوات الإسرائيلية، التي تظل في حالة طوارئ مستمرة توقعاً لكل شيء.
لهذا سعت الموساد لتجنيد أكبر عدد من سكان القرى الحدودية لإمدادها بأخبار فورية عن الفدائيين، معتمدة في ذلك على أسلوبين من العمل التجسسي:
1- جاسوس يعمل منفرداً، موثوق في إخلاصه وصدق معلوماته وأخباره، غير مطالب بالبحث عن خونة آخرين لتكوين شبكة جاسوسية "وهو يختلف عن جاسوس المهمة الواحدة".
2- شبكة جاسوسية تضم أكثر من عميل في عدة مواقع.
والشبكة عادة ما تتكون إما عن طريق جاسوس ماهرة أعطى أمراً بتجنيد آخرين لمعاونته، وإما بإلحاقه تحت إشراف جاسوس آخر، أو شبكة مؤلفة سلفاً.
لقد انفردت لبنان – عن بقية الأقطار العربية بكثافة عدد الجواسيس داخل الشبكة الواحدة. فعندما ضبطت السلطات الأردنية إحدى شبكات الموساد، وتبين أن أعضاءها وصل عددهم لـ "37" جاسوساً، تملكنا العجب. لكن . . أن تسقط في لبنان أوائل العام 1999 شبكةواحدة مؤلفة من "200" عميل للموساد، فذلك هو الأعجب حقاً. . والدليل الذي لا يحمل تأويلاً على ازدهار النشاط التجسسي الإسرائيلي في لبنان . . مما يعطينا مؤشراً لدى الرعب الإسرائيلي والهلع من عمليات الفدائيين الفجائية، برغم وجود ثلاثة آلاف عميل يتألف منهم جيش لبنان الجنوبي.
لكل ذلك نخلص الى حقيقة جلية، أن الجاسوسية الإسرائيلية في لبنان هي عماد الأمن الذي تنشده، ومن هنا تتعامل الموساد مع ما بثته اللاسلكيات في لبنان بشكل مغاير تماماً لمثيلاتها في الأقطار العربية الأخرى. إذ تتخذ الاستعدادات الأمنية الضرورية بمنتهى السرعة في سباق مع الزمن. فالتحركات الفدائية تتسم دائماً بسرعة الحركة والفعل. . ولا وقت للتريث ريثما يتأكد صحة البلاغ أو الخبر.
تماماً، عكس الشبكات في الدول العربية الأخرى التي لا تأخذ الموساد أخبارهم بمحمل الجد، إلا إذا جاء ما يؤكدها من خلال شبكة أخرى داخل القطر نفسه. لكن هناك حالات استثنائية جداً كانت فيها الموساد تثق في صدق المعلومة المبثوثة اليها دون أدنى مراجعة، للثقة العالية في مصدرها .
وفي القصص السابقة تعرفنا على العديد من حالات التجسس المنفرد. . ونتعرف من خلال هذه القصة على نموذج آخر لأساليب التجسس الإسرائيلي، وهو نظام شبكة الجاسوسية المكلفة بتتبع الفدائيين والتغلغل في مهارة داخل نسيجهم للحد من عملياتهم وتسللهم عبر الحدود، فتلك هي وظيفتها الأساسية، بعيداً عن القيام بأعمال تخريبية في لبنان، أو ترويج الإشاعات، أو المساعدة في تسهيل مهام الاغتيالات لزعماء الثورة الفلسطينية.
راقصة المونتريكال
بداية . . أشير الى أن المقاومة الفلسطينية في الجنوب اللبناني بالذات لم تتوقف أوتكف عن إنهاك إسرائيل منذ قيامها، وكان ذلك من خلال عمليات محدودة وغير منظمة. استمر هذا الوضع حتى أعلنت منظمة التحرير عن نفسها عام 1965، فأشتعلت المقاومة، وتضاعفت حدتها ضراوة بعد نكسة يونيو 1967، ثم ازدادت اشتعالاً بعد أحداث أيلول الأسود 1970، وطرد المقاومة من الأردن الى لبنان. . فقد تصاعدت العمليات الفدائية بشكل انتقامي متصل ومنظم، لا يهدأ سواء عبر الحدود، أو بدفع لنشات الفدائيين عبر البحر المتوسط للمدن الساحلية والمستعمرات الإسرائيلية، والقيام بعمليات غاية في الجرأة والجسارة داخل الأرض المحتلة.
كان الأمر بحق مرعباً في إسرائيل، ولهذا لجأت الموساد لأسلحتها الفتاكة المعتادة – الجنس والمال – للحد من هجمات الفدائيين، وبرعت في تصيد عدد كبير من الخونة لإمدادها بتحركاتهم وخططهم ونواياهم. وكان من بين هؤلاء الخونة "أحمد ضاهر" 37 عاماً من بلدة "عيترون" الواقعة على بعد خمسة كيلو مترات من الحدود الإسرائيلية جنوبي لبنان.
فمن هو أحمد ضاهر؟ وما الظروف التي دفعت به الى السقوط في مصيدة الخيانة؟ وكيف استطاع تأليف شبكته الجاسوسية؟
إنها قصة طويلة مثيرة بدأت أحداثها في بيروت عام 1969.. عندما قرر أحمد ضاهر فجأة أن يغلق دكان بقالته في "عيترون" ويهجر حياة البساطة الى أضواء بيروت، يراوده حلم الشهرة في عالم الغناء والطرب.
وما أن احتوته المدينة الجميلة الساهرة، حتى اجتاحه إحساس جميل بمستقبل مشرق ينتظره. . وشعور بالأمان طالما افتقده منذ أنهى الخدمة في الجيش اللبناني – كرقيب متطوع – إثر حادث سيارة ترك بصماته بعظام ساعده الأيمن. واستطاع وقتها، بالمكافأة المادية التي حصل عليها، أن يفتتح محلاً بسيطاً للبقالة في قريته.
إلا أن مطالب أمه العجوز وزوجته رباب وأولاده الأربعة كانت أكبر من دخل دكانه، مضافاً اليها مجموع ما ينفقه على شراء اسطوانات الأغاني والمجلات الفنية، التي تقربه دائماً من عالمه الذي يسبح فيه خلال إرهاصاته ليل نهار.
وجمعته هواية الفن بشاعر حالم اسمه "كمال المحمودي"، دأت على السهر معه، وانتقاء ما يصبح من أشعاره للغناء. فامتزجا معاً يحلمان بالشهرة وبالمجد، ويبعثران أحلامهما عند انقضاض الواقع، ولما سافر كمال المحمودي الى بيروت يبحث عن فرصة تحقق لهما الأمل، كتب الى صاحبه ليلحق به. وأقاما معاً بشقة صغيرة تتألف من حجرة واحدة في حي بئر العبد، الواقع ما بين المطار الدولي جنوباً والمرفأ من الشمال، يفصلهما عن حي الحمراء الشهير المدينة الرياضية، وصبرا، والمزرعة، وتل الخياط.
مسافة كبيرة يقطعانها سيراً على الأقدام في أحيان كثيرة، يحملان معاناة المجد والحياة والأضواء التي أثقلتهما وأنهكتهما. فرحل الشاعر يائساً الى باريس، وبقي أحمد ضاهر وحده ببيروت يصارع اليأس والجوع والتعب.
أربعة أشهر وهوينقب عن فرصة للغناء في كباريهات المدينة، تعرف خلالها بفتاة ترقص الدبكة في ملهى "مونتريكال" في "جونية" (1) وقدمته لإدارة الملهى كمطرب من الجنوب، لكنهم عرضوا عليه أن يعمل كبودي جارد، وأمام حاجته الى المال، وافق على العرق، وظل يعاني صراعاً داخلياً مريراً أوصله الى درجة السآمة.
فوار أنطلياس
في إحدى الليالي بينما يجتر حاله، خرجت إحدى الزبونات تترنح لا تدري أين أوقفت سيارتها. فساعدها في البحث عنها لكنها لم تكن بحالة تسمح لها بالقيادة ليلاً، وأجابها بنعم عندما سألته عما إذا كان بمقدوره القيادة وتوصيلها لمنزلها.
وفي السيارة تأمل لأول مرة السيدة الحسناء التي عن يمينه، وقد انحسر ثوبها الناعم القصير عن ثلثي ساقيها، وارتعش ثدياها النافران في تمرد سافر لاهتزازات الطريق، فأربكته لفتتها وقد قرأت في عينيه أفكاره، وسألته بصوت خفيض عذب مثير:
بيظهر نظرك ممتاز.
أجابها وقد تمكن منه الإعجاب:
يا لطيف بحالي، صوتك مثل اللوز الفرك، بيقرش قرش.
ضحكت في تأوه لذيذ وهي تقول:
شو؟ تغنيلي قصيدة؟
تذكر في الحال حلمه الضائع، فنسى جسدها المرمري المثير وانطلق يحدثها عن أمانيه، وحلم الهجرة الى الشمال أملاً في الغناء. وانتبهت الى حديثه كأنما أفاقت من سكرها قليلاً وقد أخذ يشدو بصوت رخيم:
وكم أهوى سواد الليل في العينين
حورية
وكم أهوى . . جنون الوهم . . أحياه
بأشواقي البدائية . .
عن الدنيا حكايات . .
عن الأنثى . .
عشيقاتي
الأساطير الخرافية
صاحت في دهشة:
صوتك شو حلو. . إنشالله بتغني في "الكوت دو روا" ، ما تحير بالك.
وبدلاً من أن يواصل الى بيروت – حيث تسكن في حي الأوزاعي الراقي – أمرته أن ينحرف بالسيارة حتى وصل الى مفرق ضيق دخل فيه بين غابة من الصنوبر ثم استقر أمام مقهى كبير تظلله الأشجار فقال:
أين نحن الآن؟
قالت وهي تهم بمغادرة السيارة:
فوار أنطلياس.
تقدمته الى ركن قصي، وجلسا متقابلان على طاولة يجري بموازاتها جدول صغير تترقرق موجاته مع حركة النسيم الرقيق.
مالت الى الطاولة فظهر خليج صدرها الناصع يغور الى الظلام، وسألته عن اسمه وموطنه وظروفه فأجاب. فطلبت كأسين آخرين من "الجين"، وبنظرة منها آمرة رفع كأسه وشربه، ومتردداً سألها عن اسمها فأجابته:
"كارلا"
حاول أن يعرف المزيد عن شخصها فشردت ببصرها ورجته أن يؤجل ذلك لمرة قادمة.
كانت برغم جمالها الأخاذ وأنوثتها الفتاكة في الأربعين من عمرها أو يزيد بقليل. يهودية لبنانية الأصل اسمها الحقيقي "نورما عساف" هاجرت مع أبيها وأختها "ليز" الى أمريكا عام 1957 وهي في الثلاثين. فقد أعرضت عن الزواج بعد مقتل زوجها عام 1951 على يد الفلسطينيين، عندما ضبطوه يتجسس على مواقعهم بالقرب من "قلعة شقيف" كانت قد اقترنت به وعمرها تسع عشرة سنة عام 1947 بعد قصة حب مجنونة اشتهرت في "أهدن" ولما جاءها نبأ مقتله كانت حاملاً في شهرها الثاني، فسقطت مغشياً عليها، وسقط الجنين، وضاعت فرحتها منذ تلك اللحظة.
ولمدة طويلة انغلقت على نفسها وتعثرت دراسياً بالجامعة الأمريكية ببيروت، الى أن تماسكت شيئاً فشيئاً، فامتثلت للحقيقة وأكملت دراستها في الفلسفة وعلم الاجتماع، لكنها كانت في كل لحظة تضعف فيها عند هجوم الذكريات، تزداد يقيناً بأنها لم تنس الحبيب والزوج القتيل.
تكر السنوات وتطرحها موجات الحياة على الشواطئ فلا تنسى، وتظل حبيسة الماضي الذي يأبى أن يغادرها. واعتقد أبواها بأن الهجرة قد تنسيها معاناتها، وتمزجها بالمجتمع الجديد بعيداً عن لبنان، لكنهما كانا واهمان. فانتهما كانت مكبلة بماضيها بحبال من فولاذ وصورة زوجها ما تزال تتدلى على صدرها، أما خطاباته الغرامية فقد أودعتها علبة مزركشة برسوماته لا تغلق حتى تفتح. كانت هداياه أيضاً منثورة بكل أركان حجرتها، وملابسه تحتل مكان الصدارة في دولابها، حتى أحذيته. . فكثيراً ما كانت تتلمسها برفق وحنان وشوق مسعور. وضحكت ذات يوم وقد حدثتها أمها مترددة في أن تصحبها الى الطبيب النفساني، فقالت لها:
أتحسبينني جننت؟ كنت أحب زوجي ولا زلت، ولن أسمح لرجل قط أن يلمس جسدي من بعده.
كارلا استيفانو
في شارع MULTRIE عاشت نورما بمدينة "شارلستون" ، وافتتح أبوها مطعماً بالقرب من الميناء يقدم الأطعمة الشرقية للبحارة العابرين. وفي منتصف 1958 وفد الى المدينة زائر تبدلت مع مقدمه حياة نورما تماماً، إنه "روبي" ابن عم زوجها، الذي أنبأها بأنه هاجر الى إسرائيل، وقد جاء الى أمريكا ليتدرب في أحد المصانع، واندهش الشاب أمام تعلق نورما بحياتها في الماضي وعدم رغبتها في الخروج منها، وحاول معها كثيراً لكنه فشل.
وفي زيارته التالية لم يجيء وحده، بل كان بصحبته مراسل صحفي إسرائيلي، عرض عليها للخروج من أزمتها أن تسعى للانتقام من قتلة زوجها، وأن تطاردهم أينما كانوا.
جذبها حديثه وحرك فيها كوامن الثأر التي كم راودتها لكنها عجزت عن إيجاد الوسيلة لذلك. ولما سألته كيف تنتقم وتثأر (؟!!) أجابها بأن هناك وسائل شتى للانتقام وإراحة أعصابها، ووعدها بأن يجيئها بالشخص الذي يعاونها.
وبعد أيام قلائل، كانت تنصت باهتمام شديد لرجل لبق أنيق، استغل معاناتها جيداً وضغط بقوة على براكين آلامها ففجرها، إنه "أبراهام مردوخ" ضابط المخابرات الاسرائيلي..
لقاء واحد بينهما أشعل ابراهام بداخلها ثورة من جنون الغضب، والحقد الأسود والكراهية للفلسطينيين، ولم تنتظره ليعرض عليها العمل مع الموساد. . بل هي التي ضغطت فكيها توعداً وصرخت فيه:
سأحرق قلوبهم كما فعلوا بي، سأنسف أفراحهم وأحلامهم. . إنني أتشوق للانتقام والثأر، فألف كلب منهم لن برويني دماؤهم.
أجابها في هدوء:
سيدتي . . الغضب في عملنا قد يكلفنا حياتنا. نحن نعمل بلا أدنى اندفاع، فالحرص والذكاء هما مفتاح مهامنا وقوتنا، وأساس عملنا في جهاز المخابرات.
قالت:
إنني على استعداد تام للعمل معكم، لكن بشرط، ألا أتعرى لرجل، أو تضغطوا علي لأضاجع حيواناً عربياً، مهما كان مركزه، لأجلب منه أسراراً تريدونها.
ابتسم مردوخ ابتسامة باهتة لا تحمل معنى وعقب قائلاً:
ليكن في معلومك سيدتي أن الجنس أمر غير وارد في عملنا . . (!!) . . لكننا نلجأ اليه مع بعض العرب الذين يعيشون حالة شرسة من الجوع الجنسي، والبعض الآخر يكتفون بالمال فقط للتعاون معنا. وعلى كل، أعدك بألا نُعرضك لأولئك الجوعى، فعندنا فتيات مدربات جيداً للتعامل معهم.
انتهى اللقاء بينهما . . وكان عليها أن تنتظر بضعة ايام ليجيئها الأمر بالسفر الى تل أبيب. وقد حدث، وطارت تسعمائة كيلو متراً الى نيويورك حيث التقت بمردوخ، الذي شرح لها خطواتها القادمة، وأطلعها على ما يجب أن تفعله في روما.
في روما كان ينتظرها شخص ما تسلم منها وثيقتها اللبنانية وسلمها وثيقة أخرى باسم "كارلا ستيفانو"، وظل يتابعها من بعيد حتى وهي تصعد سلم الطائرة الاسرائيلية المتجهة الى مطار اللد.
كانت تشعر بسعادة غامرة وقد أدركت أن هناك تغيرات جديدة اقتحمت حياتها. بحفها إحساس بالنشوة وهي مقبلة على الانتقام لزوجها، وثمة تبدلات لذيذة اجتاحت مشاعرها عندما حلقت الطائرة الى دائرة كاملة فوق تل أبيب، قبل أن تهبط باللد على بعد سبعة عشر كيلو متراً، وهتفت:
ها هي إسرائيل أخيراً. . الوطن الجديد والحلم والمعاناة . . الوطن الذي قتل من أجله الحبيب . . .
ومن أجله أيضاً تسعى للثأر بقدميها. .
حية بين الأفاعي
أهلاً بك في إسرائيل مسز نورما.
صافحت اليد الممدودة في سعادة، وتأملت وجه الرجل البشوش اللطيف القسمات وهو يقول:
نأمل أن تكون الرحلة طيبة .. من فضلك دعيني أحمل حقيبتك . .السيارة قريبة من هنا.
كان الاستقبال حافلاً وحاراً كطقس سبتمبر 1958، وأخبرها موافقها أنها ستقيم بفيلا رائعة على شاطئ البحر في "نتانيا" وأنها بعد الغد ستكون ضيفة شرف على مائدة أيسير هاربل (1) الرئيس الأعلى للمخابرات الإسرائيلية، في احتفال يقام بمناسبة مرور ستة أعوام على رئاسته للمخابرات.
انبهرت نورما بهاريل عندما قام لاستقبالها، منحنياً أمامها في احترام وهو يقبل يدها ويدعوها الى مائدته. . وسرت ببدنها رجفة زهو سيطرت عليها بصعوبة.
التفت بوجهه الوديع ناحيتها وقال لها:
لتغفري لي سيدتي أنني لم أكن في شرف استقبالك بالمطار. إنني لفخور جداً أن تنضم سيدة رائعة مثلك الى اسرتنا في الموساد.
ازدادت ارتباكاً لرقة حديثه وذوقه في انتقاء كلمات الإطراء، وتمتمت ببضع كلمات خجلى بدت غير واضحة، فأخرجها من خلجها عندما وقف قائلاً:
اسمحي لي مسز نورما أن أقدمك الى كبار رجال الدولة في إسرائيل. مشت الى جواره ثم تأخر عنها خطوة وهو يقدمها لأكبر ضيوفه: بن جوريون رئيس الوزراء الذي قبل يدها وهنأها على سلامة الوصول. ثم قدمها لجولدا مائير وزيرة الخارجية، ولبن زبون بنكوس وزير المواصلات، وشمعون بيريز وموشي ديان، ولشخصيات هامة أخرى منهم إسحاق يزير نيتسكي ، ويهو شافاط هاركابي ، ومائير ياري زعيم المابام، والجنرال آموز مانور ، والجنرال مائير ياميت ، وليلى كاستيل ، والياهو ساسون، وبنيامين بلومبيرج، وغيرهم من مؤسسي إسرائيل وكبار رجالاتها.
أحست نورما عساف بأهميتها رغم ضآلتها، وأسلمت قيادها لفريق من أكفأ رجال الموساد قاموا على تدريبها وتلقينها فنون التجسس، وطرق اصطياد الخونة وأساليب السيطرة عليهم.
أربعة اشهر كاملة في نتانيا أخضعت أثناءها لدورات مكثفة في التمويه والتخفي، واستعمال المسدس، واستخدام جهاز اللاسلكي في البث بشفرة معقدة، تستند الى حروف من كلمات رواية "الأرض" للأديبة العالمية "بيرل بكْ" وأطلعوها أيضاً على ملف كبير يحوي أعمال زوجها القتيل في خدمة إسرائيل.
هكذا شحذوا همتها وأشعورها بأهمية دورها في لبنان، وذلك للحد من العمليات الفدائية المتكررة التي تجيء عبر الحدود مع إسرائيل.
وفي 23 يناير 1959 غادرت نورما تل أبيب الى روما، وكان في استقبالها الشخص نفسه الذي قابلها عند مجيئها من نيويورك، فتسلمت منه وثيقة سفرها اللبنانية وطارت الى بيروت. عشر سنوات في لبنان تطارد الفلسطينيين وتنقب عن ضعاف النفوس بين سكان الجنوب، تساعدها في مهامها فتيات ذوات حسن وجمال أخاذ، ينتشرن في كل أرجاء لبنان، منتدياتها، وكباريهاتها، وشواطئها، وفنادقها. البعض منهن يهوديات يعرفن حقيقة نورما عساف، والأخريات إما مارونيات أو أرمينيات يجهلن شخصيتها، ينقدن لرغباتها أمام سطوة المال وسحره، ويجتهدن في اصطياد الجنوبيين في بيروت، والفلسطينيين البائسين أيضاً.
عشر سنوات وشبكة نورما تبحث عن الخونة الذين يسهل إخضاعهم بالجنس والمال، فتطويهم طياً، وتزرعهم في جُبْ الخيانة لخدمة إسرائيل، وكان "أحمد ضاهر" أحد هؤلاء الذين تصيدتهم بمهارة، فماذا حدث بعد لقاء فوار أنطلياس؟ .