احتضان خائن
لازم شاكر حجرته بالفندق لمدة خمسة أيام . . اشتعلت بداخله أثناءها كل أنواع الظنون. وكان لبقائه بمفرده طوال هذه الأيام الخمسة سبب لا يعلمه بالطبع .. فالمخابرات الاسرائيلية لكي تدعم مدى صدق العميل الجديد .. تبحث في حياة العميل وشخصيته وتاريخ حياته.. ويترك العميل لفترة ما يقطع فيها الاتصال به. . وتتم في هذه الفترة أعمال التحريات والمراقبة والتحليل للتأكد من صدق النوايا. . وعندما استدعوه غمرته سعادة كبيرة .. وأسرع الى السفارة الاسرائيلية فاستقبله ضابط آخر اسمه "هيدار" وهو الضابط المسؤول عن التجسس في "الجمهورية العربية المتحدة".
استعرض معه هيدار تفاصيل ما جاء بتقريره. ولعدة ساعات أخرى خضع شاكر لامتحان صعب من الضابط الاسرائيلي الذي تعامل معه بلطف شديد وقال له "مرحباً بك في سفارة بلد صديق" وعليك أن تعلم جيداً أن الفن العسكري والسياسي .. يستقي قوته من المعلومات التي يوفرها جهاز المخابرات الفعال في شتى الميادين في زمن الحرب أو السلم.
فالمعلومات المستقاة من قبل دوائر المخابرات هي أهم ما يعتمد عليه واضعو السياسة .. والقادة العسكريون في كل دولة. تلك الخطط التي تكفل وتؤمن المفاجأة وإرباك العدو في المجالين العسكري والسياسي .
ومن أهم نجاحات رجال المخابرات . . ورود المعلومات في الوقت المناسب .. وبالقدر الكافي قبل بداية الالتحام. وقياساً عليه . . فإسرائيل لا يمكن لها أن تخطط لأي عملية دفاعية مع العرب .. إلا إذا تجمعت لديها كل المعلومات المطلوبة عن الدول العربية عامة .. والدول المجاورة لها خاصة.
واضاف "هيدار" بأن القسم الخاص بالدول العربية في المخابرات الاسرائيلية. . قد انتهج مناهج عديدة .. وطبق وسائل مختلفة لتحقيق انتصار دائم على العرب. وما حدث في يونيو 1967 هو نتاج المعلومات الغزيرة . . التي تجمعت وتسربت من البلاد العربية عن طريق عملاء إسرائيل المخلصين.
وأشد هيدار بدور هؤلاء العملاء موضحاً لشاكر صراحة أن إسرائيل دولة مزروعة في قلب الوطن العربي . . نتيجة لإرث قديم في أراضي فلسطين. . وأن المخابرات الاسرائيلية لا تترك عملاءها نهباً للمخاوف وللمخاطر .. بل تضحي بالكثير من أجلهم وتعمل جاهدة على استردادهم بتشى السبل .. ولا تبخل عليهم بشيء طالما هم مخلصون لإسرائيل محبون لها.
وأكد ضابط المخابرات المحنك . . أن الكثيرون يعتقدون بطريق الخطأ أن إسرائيل إنما تهدف فقط الى الحصول على معلومات عسكرية لها اتصال مباشر بالعمليات القتالية. ولكن المعركة العسكرية تعتمد على نواح كثيرة جداً لا تقل أهمية عن القوات. بل لها الأثر الفعال على كفاءتها مثل قدرة الدولة على الصناعة. . وتوافر الطاقة الانتاجية، والحالة الاقتصادية العامة للدولة، والحالة التموينية والاحتياطي العام والمخزون السلعي.. ومدى تماسك الجبهة الداخلية وصمودها .. وقدرة الدولة ومدى استعدادها لظروف الحرب.
كانت الظروف النفسية السيئة مضافاً إليها الحاجة الماسة الى المال سبباً مهماً في جلوس شاكر فاخوري أمام ضابط الاستخبارات الإسرائيلي .. فقد جلس أمامه لأوقات طويلة وعلى مدار أيام عدة كتلميذ ينتبه لإرشادت أستاذه . . وبرأسه تدور عشرات الأسئلة حول معاناته. . والمشكلات التي يمر بها . .
ووسوس له الشيطان أن إسرائيل تعرف كل شيء عن مصر .. وأن المعلومات التي قدمها لن تقدم أو تؤخر . . إنها مجرد معلومات عامة هامشية لا تحمل ضرراً ما لأمن وطنه.. أو تدينه أمام الجهات الأمنية إذا ما انكشف أمره.
وظلت تلك الأوهام تسيطر عليه حتى استحالت الى حقيقة. . يؤكدها ما كان يلقيه عليه هيدار بثقة . . واطمئنان.
لقد كانت جل أمانيه أن يخرج من بوتقة الفقر .. ويعيش بمصر آمناً معيشياً لا يسأل أحد أو يمر بضائقة مالية ترهق باله.
وأمام رغبته الملحة في الإثراء السريع المريح . . ونقص الدافع الوطني .. إضافة الى الإغراءات الخيالية التي صبت في أذنية صباً. . وتملكت منه . . وافق على أن يكون صديقاً للعدو .. أميناً في إمداده بكل ما يطلب منه من معلومات أو مهام. هكذا دخل شاكر برجليه وكر الجاسوسية راضياٌ قانعاً. . غير عابئ بالعواقب أو نهاية الطريق المظلم الحالك .. ووجدها رجال الموساد فرصة لا تعوض جاءتهم بلا تعب. . فاستغلوها وأجادوا تلقينه فنون اللعبة الخطرة . . وكانوا قانعين بأن من رضي باللعب مع الثعابين فحتماً – سيلدغ شر لدغة.
استوعب العميل الجديد مهامه التجسسية جيداً.. وامتلأت جيوبه الحاوية بأموال الموساد القذرة. وحمل حقائبه الى القاهرة لمدة شهر .. وعاد ثانية الى قبرص وأبلغ الضابط المسؤول بالسفارة الاسرائيلية بنتائج رحلته السريعة.
إخلاص جاسوس
كتب شاكر في تقريره أنه لم يضيع وقتاً في القاهرة. بل شرع في الحال في ممارسة عمله بصدق . . وكون صداقات عديدة مع رجال ونساء من فئات مختلفة من رواد الملاهي والبارات. وأهم صداقاته كانت مع ضابط مصري يدعى (م. ش. أ) تعرف عليه بأحد الفنادق. وأغدق عليه بكثير من الهدايا دون سؤاله عن أي شيء حتى لا يثير مخاوفه.
وكان التقرير الذي سلمه شاكر لضابط الموساد متخماً بالمعلومات التي أذهلت الضابط . . فأرسله بدوره الى تل أبيب . . وجاءت الأوامر العاجلة بضرورة سفر شاكر لإسرائيل.
وتأكيداً لإخلاصه للموساد وافق شاكر بدون مناقشة، وتسلم جواز سفر إسرائيلي باسم (موشي إبراهام) . . وطار بطائرة العال الإسرائيلية الى مطار (اللد). . ليجد الضابط هيدار بانتظاره. . وكانت إقامته بتل أبيب في إحدى الشقق المعدة لأمثاله من الخونة .. وهي في العادة مجهزة بأحدث ميكروفونات التنصت والكاميرات الدقيقة.
وكعادة المخابرات الاسرائيلية لكي يضمنوا السيطرة على الجواسيس . . صوروه عارياً مع مديرة المنزل .. وهي فتاة في الثانية والعشرين خمرية اللون قالت له إن جذورها عربية. وأقامت معه الفتاة إقامة كاملة لخدمته ولراحته.
وفي مبنى المخابرات الاسرائيلية، اجتمع به عدة ضباط وخبراء ناقشوا معه التقرير المفصل الذي سلمه في قبرص، وكان بينهم الضابط هيدار . . وضابط آخر اسمه أبو يوسف . . وآخر مسؤول عن التجسس في لبنان، وبعد مناقشات طويلة، قال له كبير الخبراء:
لقد سعيت إلينا بنفسك في قبرص، والآن .. نريد أن نتأكد من إخلاصك للموساد .. وأنك لست ضابط مخابرات مصري مدسوس علينا . . وهذا ليس ببعيد على المخابرات المصرية التي زرعت خبراء لها في جهازنا مرات عديدة.
صراخ شاكر محتجاً، وأكد لهم أنه لا يعرف أين يقع مبنى المخابرات المصرية، وأنه بالفعل ذهب بنفسه الى سفارتهم في قبرص. . رغبة منه في إثبات أهميته ووجوده بعدما أحاطه الفشل من كل جانب. . وأيضاً ليحصل على أموال كثيرة تعينه على مجابهة أهله ومعارفه في مصر.
قال هيدار:
- أنت هنا في تل أبيب لتثبت لنا ذلك، ولكي نعمل معاً بأمان، فسنفحصك بواسطة "جهاز كشف الكذب".
ولم يحتج شاكر هذه المرة. . بل أبدى رغبة جادة في تأكيد "إخلاصه" لهم بكل الطرق التي يرونها.
وأخضع بالفعل للفحص بواسطة الجهاز الامريكي.. الذي أكد صدق خيانته لوطنه وانتمائه للموساد قلباً وعقلاً.
عند ذلك. . ابتدأ تدريبه على أيدي أمهر ضباط المخابرات. . الذين صنعوا منه جاسوساً خبيراً بفنون التصوير، وتشفير الرسائل، والكتابة بالحبر السري، ومسح الأراضي "الطوبوغرافيا" وكيفية التعرف على الأسلحة الحربية برية وبحرية وجوية، وتحديد قدرة تسلحها وطاقتها ومداها المجدي، وأعطى عنواناً في روما ليبعث برسائله المشفرة.
ومن المعروف أن المخابرات الاسرائيلية تخصص لكل جاسوس يعمل لحسابها شفرة خاصة به .. باستخدام "رواية" عربية معروفة أو أجنبية متداولة. . تكون أساساً للإشارات الرمزية المتبادلة بينه وبين المخابرات الإسرائيلية .. ويجري تبديل هذه الرموز بين آن وآخر.
أيضاً تحدد المخابرات الاسرائيلية نوعية الحبر السري لكل جاسوس، فلكل حبر سري ميزات خاصة تؤكد أن مسكر الرسالة هو العميل نفسه المسلم إليه الحبر.
خريج الموساد في القاهرة
بعدما حصل شاكر فاخوري على دورات في التجسس، عاد ثانية الى نيقوسيا ثم الى القاهرة. وبدأ في الحال جمع معلومات وافية عن الجيش المصري والقوات الجوية بالذات .. وكذلك عن النشاط السوفييتي في مصر والخبراء العسكريين السوفييت، والأحوال عامة بعد غارات إسرائيل المستمرة على ضواحي القاهرة، وكان يستقي معلوماته من أفواه العامة من الناس . . على المقاهي وفي المواصلات العامة والنوادي الليلية في شارع الهرم .. حيث ترتادها كافة المستويات.
أما المعلومات العسكرية وأخبار الاستعدادات الحربية، ونشاط الخبراء السوفييت فكان يحصل عليها من العسكريين الذين يمتون اليه بصفة القرابة أو الجيرة. وأيضاً من خلال الضابط (م. ش. أ) الذي حمل اليه بعض الهدايا من قبرص على سبيل الذكرى.
لقد ركز شاكر كثيراً على هذا الضابط الذي استجاب له بسرعة .. وتبسط معه في الحديث وسرد الأخبار مما استتبع ملازمته لفترة طويلة طوال وجوده بالقاهرة، وعمل على منحه الدعوات المجانية للحفلات.. وبعض الهدايا الذهبية الثمينة في المناسبات المختلفة، والتي لا تتناسب وحجم علاقتهما.
كل ذلك أدى الى تخوف الضابط المصري من سلوك الشاب، فبادر على الفور بإبلاغ جهاز المخابرات بشكوكه. . ونقل الى المسؤولين بالجهاز كل ما دار بينه وبين الشاب من أحاديث وما تسلمه منه من هدايا مختلفة.
تم عمل الترتيبات الأمنية اللازمة .. وكان هناك حرص زائد على ضبطه ومعه أدلة إدانته .. وطلبوا من الضابط أن يتظاهر بصداقته، وألا يجعله يشك في نواياه.. وأن يطلعهم أولاً بأول على مجريات الأمور.
وبعدما اعتقد شاكر أنه اشترى الضابط المصري بهداياه .. انتهز فرصة مروره بضائقة مالية "مفتعلة"، وعرض عليه إمداده ببعض المال.
وحسب الخطة وافق على طلب شاكر بجلب بعض الوثائق العسكرية. . بحجة الاطلاع على استعدادات الجيش للحرب، ولبس الخائن ثياب الوطني المخلص الذي يحلم بيوم الثأر من إسرائيل، وبأن رؤية هذه الوثائق وشروحه عليها تسعده كثيراً. . وتشعره بمدى قوة الجيش المصري، خاصة والطيران الاسرائيلي، قد بدأ يتساقط كالعصافير بعد اكتمال حائط الصواريخ، ولم تعد لديه الشجاعة على اختراق المجال الجوي المصري. وأمده الضابط بمعرفة جهاز المخابرات ببعض الوثائق، ولما تضخمت لدى شاكر الوثائق المعدة سلفاً حملها سريعاً الى نيقوسيا، وامتلأت جيوبه عن آخرها بأموال الموساد، فعاد بها الى القاهرة يحمل رغبة الموساد في تجنيد الضابط المصري، وكل مهمته منحصرة في إقناعه بالسفر الى قبرص لعلاج ابنته، وهناك. . سيتولى رجال الموساد اصطياده بالسيطرة عليه بتصويره عارياً مع عميلة إسرائيلية، وبمنحه آلاف الجنيهات.
عندما عرض شاكر على الضابط فكرة السفر الى قبرص. . تظاهر بالموافقة، وأخذ يماطله وفقاً لطلب المخابرات متحججاً بدراسة الطلب في قيادة الجيش، حيث كانت طلبات السفر خارج مصر تخضع لظروف عدة بالنسبة للضباط.
ولما طالت مدة الانتظار، أراد شاكر أن يذهب بالضابط الى قبرص مجنداً. . وترتفع بذلك مكانته في جهاز الموساد. . وبالتالي يتعاظم رصيده المالي. . فمنح الضابط مبلغاً كبيراً لقاء بعض الخرائط العسكرية، موضحاً عليها مواقع صواريخ "سام 6"، وكذلك المواقع التبادلية، وخرائط أخرى تبين محطات الرادار الهيكلية والصواريخ، وأيضاً خطط السوفييت لحماية المواقع الحيوية، وخطط اصطياد الطيران الاسرائيلي المتسلل الى العمق المصري.
بل إن الخائن الذي اعتقد بالفعل أنه اشترى الضابط. . طلب منه تصوير مواقع عسكرية، وإمداده بوثائق عن الخطط الدفاعية والهجومية العسكرية والأسلحة الحديثة، واستأجر الجاسوس الخائن شقة جديدة من أموال الموساد، خصصها للقاءاته مع الضابط و "تخزين" المستندات والخرائط بها.
وبعد عدة سفرات الى قبرص بالمعلومات التي سربتها المخابرات المصرية اليه لينقلها الى الموساد .. يعود شاكر بالأموال الطائلة، ينفق منها على ملذاته، ويشتري الهدايا للضابط ولأسرته.
وذات مساء عاد مخموراً من سهرة فسق، وعندما امتدت يده بالمفتاح الى كالون الشقة، فوجئ بالباب ينفتح فجأة .. ويقف بالداخل عدة أشخاص كانوا بانتظاره ويترقبون مجيئه. .
جذبه أحدهم الى الداخل، وعلى المكتب رأى الأوراق التي جمعها.. خرائط .. ووثائق. . وتقارير كتبها بخط يده، وصور لبعض المواقع العسكرية، وعدة أفلام خام لم يجر تحميضها..
وبينما كانت الأيدي تمسك به، ويتجه الركب الى حيث ينتظره مصيره الذي خطه بنفسه .. أحس باندفاع بوله الدافئ بين ساقيه. . وقال لمرافقيه:
الى أين ستأخذونني؟
فقال أحدهم:
لتدفع ثمن خيانتك .. هذه الأرض التي تبولت عليها الآن رعباً .. منحتك الأمن والأمان فبعتها. . بعتها لأقذر كلاب الأرض نجاسة وخسة .. فتعال الى مصيرك المحتوم حيث لن ينقذك أحد من حبل المشنقة. . !!