من ملقات الجاسوسية . يعقوب جاسم . . ـ عاشق فروندزة
كان يصطاف على شواطئ بحر قزوين في إيران، فاصطادته الموساد وأغرقته عاهراتها في بحور الجنس والمتعة، ورجع الى العراق جاسوساً خائناً، برفقته زوجة إيرانية مدربة، اتبعت حيلاً عجيبة للإيقاع بالضباط العراقيين، لكشف أسرار المخزن رقم (3) في بغداد، وأسرار الغواصات السوفييتية في منطقة أم قصر.
إنها أجرأ عميلة استخدمت سم السيانيد لقتل ضحاياها. . !!
حصر كل شخص اسمه يعقوب
في يناير 1966 وفي إحدى نقاط العبور على الحدود العراقية الإيرانية، لاحظ ضابط عراقي بعيني خبير مدقق، أن حالة من الارتباك تعتري أحد العابرين، فتقدم منه وسأله عن وثيقة سفره، فازداد ارتباكه، مما شجع الضابط على ضرورة تفتيشه مرة ثانية بدقة. وكانت المفاجأة التي لم تخطر بباله أبداً، إذ اكتشف جيوباً سحرية في قاع حقيبته، مليئة بخرائط لمواقع عسكرية عراقية، وتقارير سرية هامة تمس الجيش والاقتصاد.
انهار الجاسوس في الحال، وأخذ يصيح بالفارسية بما معناه أنه مجرد "ناقل" للحقيبة ولا يدري بما بها.
وفي مكتب المخابرات العراقية في بغداد، أنكر معرفته بالشخص الذي سلمه الحقيبة، وقال إنه اعتاد مقابلته بمقهى بشارع هارون الرشيد فيتسلم الحقيبة منه وينصرف كل الى حاله، دون أن يعرف من هو، أو ماذا بالحقيبة؟!
لم يصدقه ضباط المخابرات بالطبع في بادئ الأمر، وأمام إصراره وتأكيده على أقواله، أدخلوه غرفة خاصة في بدروم المبنى، حيث جرى تعذيبه بقسوة ليعترف فأقر بأنه يعمل لصالح المخابرات الاسرائيلية، وتنحصر وظيفته في الذهاب لمقابلة جواسيسها في العراق لاستلام الوثائق والعبور بها الى إيران. وتكرر هذا الأمر في بغداد تسع مرات الى أن قبض عليه.
وفي محاولة أخرى لانتزاع أية معلومات "من فجر عبد الله"، حبس في زنزانة انفرادية لعدة أيام بلا طعام أو شراب، وأوهموه بأن حكماً قضائياً سيصدر ضده خلال أيام، وسيعدم لا محالة عملاً بقانون العقوبات العراقي، الذي يعامله معاملة الجاسوس، فاعترف فجر بأنه لا يعرف سوى الاسم الأول فقط للعميل الذي سلمه الحقيبة وهو "يعقوب"، وتذكر اسمه لأنه بينما كانا معاً ذات مرة في مقهى بشارع هارون الرشيد، أقبل أحد الأشخاص وصافحه منادياً عليه باسمه "يعقوب".
أخرج فجر من زنزانته الضيقة الى أخرى انفرادية أكثر اتساعاً، وعرضوا عليه أن يساعدهم في التعرف على "يعقوب" هذا مقابل أن يصنفوه كشاهد فقط، فوافق فجر على هذا العرض السخي.
ومنذ أن أدلى باسم يعقوب، وكان هناك سباق محموم للتوصل الى جاسوس إسرائيل عن طريق السجلات المدنية، التي تم مسحها بالكامل في كل العراق لحصر الاسم، والحصول على صور لكل "يعقوب" عراقي لعرضها على العميل الاسرائيلي.
آلاف الصور عرضت عليه مرة واثنين، على مدار عدة أيام، عومل خلالها معاملة حسنة، فأطعم أطايب الأطعمة وألذها، ونام نوماً مريحاً على فراش وثير.
وفي اليوم السابع للبحث في الصور، تعرف فجر على صورة يعقوب يوسف جاسم – 34 عاماً – الموظف بإحدى محطات الكهرباء ببغداد، فعرضوا عليه الصورة مرة أخرى بعد خلطها بصور قريبة الشبه، لكنه تعرف على الصورة نفسها، وفي الحال قامت قوة من رجال المخابرات بمهاجمة منزله وتفتيشه، فعثروا على وثيقة سفره التي تبين أنه سافر الى إيران عشرات المرات.
وعندما أخبرهم بأنه متزوج من إيرانية، لم يلتفتوا اليه، بل استمروا في التفتيش الى أن ضبطوا عدة وثائق عسكرية سرية محشورة في "رجل" السرير النحاس، مربوطة بخيط رفيع يتدلى من أعلى "الرجل" الأسطوانية، التي نسي أن يضع عليها غطاءها كالأرجل الثلاثة الأخرى، فألقوا القبض عليه وعلى زوجته الإيرانية "فروزندة وثوقي".
واستمرت عملية التفتيش بدقة متناهية، بمعرفة خبراء المخابرات الفنيين، الذين اكتشفوا مخبأً سرياً في غلاف مجلد كبير عن الشاعر "معروف الرصافي" يحوي رسائل باللغة الفارسية، عبارة عن أوامر من ضابط الارتباط الاسرائيلي في ميناء عبادن الإيراني، يطلب منه موافاته بتقارير وأخبار عن الأسلحة السوفييتية الجديدة التي تصل الى العراق، وكذلك عن الغواصات السوفييتية الكامنة في قاع منطقة "أم قصر" المتاخمة لحدود الكويت، وحظائر طائرات توبولوف – 22 الحربية المهاجمة، وعددها، والمطارات الحربية المتواجدة بها، ومعلومات تفصيلية عن الطائرة ميج 21 ومطاراتها وعدد طياريها، والخبراء السوفييت في العراق.
صراع السيطرة
وفي مبنى المكتب الثاني – المخابرات- أخضع يعقوب لاستجواب مطول، فأنكر في البداية اشتراك زوجته معه في أعماله التجسسية التي اعترف بها وبعمالته للموساد، إلا أن استجواب فروزندة على انفراد أسفر عن اعتراف صريح بدورها في شبكة زوجها، بل وأدلت بأسماء بعض أعضاء الشبكة من العراقيين قبلما يعترف بهم يعقوب.
وكان لسقوط شبكة يعقوب أثر بالغ على المخابرات الاسرائيلية، إذ خسرت بسقوطها العديد من أمهر جواسيسها في العراق.
كانت لطمة عنيفة للموساد التي لم تتصور أن بالعراق رجال مخابرات أكفاء، لديهم المقدرة على مطاردة الخونة بمثل هذه البراعة، وفضح ممارسات إسرائيل والتواطؤ الإيراني معها من أجل زعزعة الأمن في العراق، بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا التواطؤ توجهه الولايات المتحدة الأمريكية وتباركه، للحفاظ على مصالحها في الخليج، للحد من التغلغل السوفييتي في المنطقة، خاصة بعد زيارة شاه إيران موسكو في يوليو 1965، التي أزعجت الإدارة الأمريكية وأربكتها.
لقد كان التوسع في المؤسسة العسكرية في المنطقة سبباً آخر، يضاف الى الخوف الأمريكي والاسرائيلي معاً، فالتوسع في المؤسسة العسكرية يعني تحديث الجيوش، إدارة، وتسليحاً، وتدريباً، يترتب عليه توسع في الطبقة العسكرية، نظراً لغياب المؤسسات السياسية المدنية، فحتماً ستتحول الطبقة العسكرية الى فئة ضاغطة سياسياً، وذات ثقل في اتخاذ القرارات.
هكذا كانت النوايا الأمريكية تتجه بزاوية حادة لإجهاض النمو العسكري في المنطقة لعدم التداخل مع مصالحها، والعمل على تأسيس مؤسسات نيابية، وحكم مدني نزيه، يفتح الباب على مصراعيه كي تجد الكفايات المدنية مكانها في السلطة، وفي جهاز القرارات العليا، وإلا فستلقى المنطقة – مع هذا النمو العسكري الحديث – سلسلة من المغامرات والاختبارات المرة، خاصة إذا لم تكن هناك وقاية من عمليات التلقيح السياسي، وزرع روح الاحتراف العسكري وشرفية المهمة العسكرية.
ومنذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بالملكية في العراق في 14 يوليو 1958، والعسكريون يعتلون مقاعد الرئاسة، حيث توالت الانقلابات العسكرية، وظهرت على الساحة وجوه عسكرية لم تلتزم بخط سياسي عام، أو استراتجية مفهومة، مما أقلق الولايات المتحدة الأمريكية التي تحتفظ بوجود عسكري في الخليج العربي منذ عام 1949، حماية لمصالحها في البحرين والكويت والسعودية، واعتبار الخليج العربي قاعدة شمالية لأسطولها في المحيط الهندي.
وواكب تضاؤل حجم الوجود العسكري البريطاني في المنطقة، تزايد عسكري بحري سوفييتي في المحيط الهندي، مما يستلزم على الولايات المتحدة أن تحافظ على الوجود العسكري الغربي في المنطقة، ذلك أن نصف النفط المستهلك في غرب أوروبا مصدره الخليج العربي. وتعتمد القوات الأمريكية في جنوب شرق آسيا، وقوات حلف الأطلسي على بترول الخليج.
من هنا، فالسيطرة الأمريكية على الخليج العربي أمر حتمي لتنامي مصالحها به، خوفاً من وقوعه تحت سيطرة قوى أخرى مناوئة للغرب، قد تهز ميزان المدفوعات الأوروبي الغربي هزة كبيرة.
ومن جهة أخرى، يسعى الاتحاد السوفييتي الى السيطرة على منابع الطاقة، ومنتجاتها الرئيسية بالنسبة لأوروبا الشرقية خشية استقلالها اقتصادياً عن الكرملين، وكانت الإمدادات البترولية هي البعد الرئيسي من أبعاد الهيمنة السوفييتية على دول "الكوميكون" أي السوق الاقتصادية لأوروبا الشيوعية .. فحصول السوفييت إذن على دور مؤثر في منطقة الخليج العربي، يعني سيطرتهم على أسواق البترول في أوروبا الشرقية، وبالتالي ضمان ولاء هذه الدول لها.
أدى الصراع بين الدولتين العملاقتين في المنطقة، الى التنافس الشديد في التواجد الفعلي على أرض الواقع، عسكرياً أو سياسياً، فأغرق السوفييت العراق بالسلاح المتقدم، وملأ الخبراء الروس مدن العراق وشوارعها في تظاهرة شبه استعراضية، بل وتواجدت الغواصات السوفييتية بشكل دائم في المنطقة، وأصبحت إحدى معالم ميناء أم قصر العراقي الملاصق للكويت، حيث نالت البحرية السوفييتية حقوق استخدام التسهيلات المتوافرة هناك.
هذا الصراع المحموم على المصالح، تسبب في جعل منطقة الخليج كقنبلة موقوتة، تهدد بالانفجار، نظراً لوجود نزاع بين إيران والعراق على ترسيم الحدود بينهما في شط العرب، مما دفع إيران الى تأليب الأكراد على بغداد، فلجأ حكام العراق الى التقارب مع الأحزاب المعارضة في إيران، ومع الدول العربية المطلة على الخليج، وتشكيل لوبي عربي ضد إيران.
هناك أيضاً نزاع حول تسمية الخليج، فإيران تسميه "الخليج الفارسي" والعرب تطلق عليه "الخليج العربي".
لذلك . . نجد أن إسرائيل منذ زرعت في المنطقة العربية، سعت لمراقبة النمو المضطرد للجيش العراقي، الذي يسلحه السوفييت بأحدث ما في ترساناتهم العسكرية، وفتحت إيران أبوابها على مصراعيها لضباط الموساد، بل وسمحت لهم بالعمل بحرية ضد العراق انطلاقاً من أراضيها.
لقد كانت أيضاً، كإسرائيل، تخشى من التسليح العراقي، وحكم بغداد العسكري الذي قد يتعملق ويفرد ذراعيه باتجاه البلدين "إيران وإسرائيل". لذلك فقد كانت العمليات الجاسوسية الإسرائيلية في العراق، خير دليل على مدى الخوف من تنامي القوة، ويقظة روح الجهاد لدى جيش العراق وحكامه.
رحلة الى كوكب آخر
فمنذ ترعرع يعقوب يوسف جاسم، تراوده أحلام العظمة، وهو يعد أقرانه دائماً بأنه سيصبح ذا شأن عظيم في يوم من الأيام.
لكنه تعثر في الدراسة وحصل على الشهادة الإعدادية بشق الأنفس، وبرغم ذلك لم تفارقه أحلامه وهواجسه التي سيطرت على حيز كبير من عقله ومسامراته.
وبعد ما استقر به المقام في عمله بمحطة كهرباء بغداد، استشعر تفاهته، وغامت حوله الرؤى، فالواقع الذي يعيشه لا ينبئ أبداً بضربة حظ قد تقتلع عذاباته، أو تصعد به الى سفوح الوجاهة والعظمة.
لذلك استكان يائساً مستسلماً، نافراً من واقعه ومن أحلامه، مودعاً والى الأبد مجداً بناه في الخيال.
وذات يوم من أيام سبتمبر 1963، حزم حقيبته وعبر الحدود الى إيران لقضاء أسبوعين على شاطئ بحر قزوين، فهي منطقة تتميز بمناظرها الطبيعية الخلابة، التي تمتد من جبال "البورز" الى البحر، وتسقط أمطارها صيفاً لتجعل الطقس ندياً رائعاً، حيث شواطئ "أستارا" و "رامر" وموانئ "بندر بهلوي" و "بابلر" و "نوشهر"، فتبدو الأجازة بهذه المنطقة كأنها رحلة الى كوكب آخر، يتسق فيه لون الماء وخضرةالزروع على درجاتها، فتشكل قطعة فسيفساء جمعت أبهى مظاهر الجمال والرونق.
وحينما وصل يعقوب الى شاطئ رامر، أذهله جمال الفاتنات يرتدين البكيني، ويمرحن على الشاطئ في دلال. . فقبع صامتاً يتأمل ويغرز سهام رغباته في أجسادهن، فتعتريه نوبات من أحلامه السابقة، لكنه سرعان ما يطردها شر طردة.
تحت إحدى المظلات استغرقه تفكير عميق، نأى به عن بانوراما الحسن التي أمامه، حتى أفاق على من يقول له:
"درود برشما، آيا شما إيراني هستيد" – (السلام عليكم، هل أنت إيراني؟)
ارتبك يعقوب أكثر عندما بادره الرجل ثانية:
"أياشما زبان فارسي ميدانيد؟" – (هل تعرف اللغة الفارسية؟)
أجاب يعقوب مرتبكاً:
نه . . . من عراقي هستم – (لا . . أنا عراقي . أجهل الفارسية)
انفرجت أسارير الرجل في دهشة وأردف:
هلا بك في إيران.
كانت لهجته الشامية بشوشة مرحة، وعرفه بنفسه قائلاً إنه لبناني واسمه "مازن" يقيم في طهران ويعمل بالاستيراد والتصدير، وبعد برهة أقبلت سكرتيرته الإيرانية "زالة" ترتدي المايوه الأورانج، فغاص يعقوب في ارتباكه وهي تصافحه مرحبة، ودعاه مازن الى العشاء معه بفيلته المطلة على الشاطئ من عل، تحاصرها لوحة فنية من الزهور والأشجار، وتنم رقيقة في حضن الجبل، الذي يبدو في الليل كشلال متدفق من الأضواء الملونة.
كانت الأمور تسير في يسر حيث استقبله مازن بشوش الوجه ومعه آخر يدعى "رماء"، وأقبلت زالة كعروس من السماء، بصحبتها إيرانية أخرى تدعى "كوكوش" والاثنتان تتحدثان العربية بطلاقة.
وبعد العشاء دارت الكؤوس وثقلت الرؤوس، وألمح اليه مازن أن كوكوش وقعت في هواه، وبدا هذا واضحاً من نظراتها واهتمامها الزائد به، وحينما هم يعقوب بالانصراف الى الفندق، أصر مازن على أن يبيت معه، وكانت نظرات كوكوش المثيرة ترجوه أن يبقى، وجلست الى جواره تلاطفه فأذهبت بقية ما لديه من وعي، ثم صحبته الى حجرة علوية، وأغلقت بابها من الداخل، وشرعت في خلع ملابسها قطعة قطعة.
أسقط في يد الأعزب الحالم الثمل، وبينما كان ينزف رجولته، كانت هناك كاميرات تصور وأجهزة تسجل الأحاديث السياسية، وتنقل كل شيء الى حجرة مازن ورماء ضابطي الموساد.
تكررت السهرات وحفلات الجنس فأيقظت هواجس يعقوب من جديد، عندما عرضت عليه عميلة الموساد الانضمام الى أسرة العاملين بشركة مازن، سألها كيف؟ أجابته بأن الشركة تبحث إقامة فرع آخر ببغداد، ولكي يتحقق ذلك، لا بد من معلومات وافية عن الاقتصاد العراقي وحركة التجارة. وبيده كتب عدة صفحات تتضمن معلومات كثيرة تشمل نواحي اقتصادية تافهة من خلال قراءاته في الصحف، وفوجئ بقبوله للعمل كمدير لفرع بغداد.
لم يصدق يعقوب نفسه، فها هي أحلامه تتحقق أخيراً، وتضحك له الدنيا من جديد، وبدلاً من الجلوس على الشاطئ للاستجمام، جلس كتلميذ مؤدب أمام معلهم مازن يشرب فنون الجاسوسية ودروسها الأولى. واستفسر يعقوب باندهاش عن علاقة الجيش والعسكرية، بشركة تعمل في مجال الاستيراد والتصدير، فأجابه مازن بأن الأسرار العسكرية في العراق مهمة جداً له. فهو لن يجازف بإقامة فرع بغداد طالما كانت هناك "نوايا" معينة لدى حكام العراق.
لم يقتنع يعقوب بالطبع، لكنه اضطر الى الإذعان أملاً في رفع شأنه كما كان يحلم منذ صغره.